الخميس، 1 نوفمبر 2012

ذكريات النصر _ قصة قصيرة





 
سار المحارب القديم نحو الشرفة ... خطواته بطيئة ... بقامته إنحناءة بسيطة ... ملامحه صارمة بها شئ من اللين ... تعابير وجهه تنم عن إرهاق ومرض طويل ... لكن بها شئ من الأمل ... شعره الابيض يحيط برأسه كأنه هالة من النور ...


جلس على الكرسى الهزاز ... بل ارتمى عليه كأنه ينفض عن كتفييه إرهاق وعناء السنين ... ارتخى بجسمه كأنه يريحه من فترة من المرض والتى أبعدته عن كل إنفعالات أو إرهاقات ... أحس أنه كان بسجن المرض ... ليس سجنا ماديا بل سجنا معنويا ...

بعد أن تنهد ... نظر إلى المنضدة ... وكان عليها فنجان القهوة ... وتذكر مكتبه فى الكتيبة العسكرية ... والذى كان يتابع فيه أعماله العسكرية وأحوال جنوده..

(( القهوة ياباشا ، مظبوط زى ماحضرتك بتشربها . وكوباية الميه الساقعة كمان ... مشبرة ياباشا ))

عبارة كاملة تذكرها ... كان يقولها عم عبده ساعى  المكتب ... ابتسم ، وقال بشئ من الهمس : الله يرحمك ياعم عبده ... وتذكر نفس الابتسامة وهو ينظر إلى عم عبده ... ثم يتابع ضاحكا ... شكرا ياراجل ياعجوز ... يرشف رشفة قائلا : الله ... قهوة رائعة .

ذكريات ... ذكريات .. الجندية ... الجنود ... الطابور العسكرى ... خطوات الجنود ... المنضبطة ... الصارمة ... القوية .

وفى هذه اللحظة نظر إلى السماء يتابع بسمعه قبل  بصره صوت طائرة حربية ... قال متسائلا : النهاردة إيه ؟ ... أسند ذراعيه على مسند الكرسى ، ووقف ببطء ... لكن به قوة العزيمة التى اكتسبها من معركة النصر 6 أكتوبر ... ذهب إلى نتيجة الحائط ، وقال : يااااااه . النهاردة 6 أكتوبر ... ما أجمله يوم ... يوم الانتصار العظيم ... يوم عودة الكرامة ... يوم الجندى المصرى الباسل.

رجع مكانه ... كأن له أجنحة نسر يحلق فوق سماء النصر ... يحلق فخورا بنصره ، يحلق بكل عزة وافتخار ... يحلق فوق قمم جبال العزة والكرامة .... وكأنه يقول : ها أنا ذا النسر المصرى  ... الفضاء ملكى .
  
جلس على الكرسى ورفع ذراعيه لأعلى ... وعقد أصابعه خلف رأسه ... وأغمض عينيه ... ورجع بذاكرته إلى الوراء ... تسع وثلاثون عاما مرت على معركة الكرامة ... تسع وثلاثون عاما مرت على معركة النصر ... معركة العزة


تذكر أول صيحة دوت بعد قرار المعركة ... صيحة أطلقت كأنها صاروخ يخترق عنان السماء ... الله أكبر ... الله أكبر .

صيحة أطلقها ألاف الجنود المصريين فى نفس اللحظة ... بنفس نبرة الصوت .. خرجت من ألاف الحناجر واجتمعت فى حنجرة رجل واحد ... عملاق ... مارد ... صيحة رجت  الآرض كأنها زلزال العزيمة ، والاصرار على النصر.

تذكر العبور ... عبور من الهزيمة إلى النصر .. من الذل إلى العزة ... من الهوان إلى الكرامة ... تنهد بإماءة والتفت برأسه ووقع بصره على المنضدة مرة أخرى كى يتابع شرب فنجان قهوته ... ولكن لفت نظره جريدة ملقاة على الجزء الأسفل من المنضدة  ... انحنى يلتقطها قائلا : بقالى مدة طويلة لم أقرأ الجرائد ... ولم اتابع الأخبار ... حمد ربه وتابع ... محدثا نفسه : لقد منعنى  الأطباء من القراءة والانفعال مدة طويلة ... لما أشوف أحوال الدنيا وأعرف أخبار مصر الحبيبة .

أمسك الجريدة وأفرد ثنيتها  ووقع بصره على العنوان الرئيسى ، قرأه والدهشة تملأه :

(( مقتل جنود مصريين  على حدود سيناء وقت الإفطار ))

ومع تفاصيل الخبر زادت دهشته ... وقرأ: بل التهم بعينيه الكلمات ...

(( جماعة إرهابية تقتحم نقطة من النقاط العسكرية على حدود سيناء وتقتل عددا من الجنود مع الضابط وقت الإفطار ))

وأخرج من فمه أه كلها مرارة وحسرة عندما قرأ ، أن هذه الجماعة كانت تردد : الله أكبر ... لم يستطع أن يكمل الخبر ظل يردد ... لاإله إلا الله ... لاحول ولا قوة إلا بالله ... وتسأل متعجبا : هل هذه سيناء التى راقت على أرضها دماء الشهداء ترويها بعد أن حررتها من العدو الصهيونى ؟!

   
هل هذه سيناء التى سقى الأبطال أرضها من دماء الأعداء حتى ارتوت ؟!


لقد رددت جنودنا البواسل هتاف : الله أكبر . لأنها كانت تقود معركة التحرير ... وتعالى الهتاف حتى وصل عنان السماء ... الله أكبر رجت جبال الصحراء ... الله أكبر ... أرجفت قلوب الأعداء ... الآن ... الله أكبر تتردد عند قتل الأبرياء ؟!

الله أكبر ... تلفظ عندما يعتدى الأغبياء ؟! ... هل هذه سيناء ؟!!! ... سأل نفسه : هل هذه معركة شرفاء ؟! ... أم معركة غوغاء ودهماء ؟!

صرخ صرخة مكتومة ... صرخة لم تخرج من صدره الذى يحمل نياشين البطولة من جروح تركت علاماتها عبر السنين ... تحسس صدره الجريح ... جرح الألم ... وجرح البطولة ... وا أعظم الفرق بين الجرحان .

قال : أه سيناء ... دافعنا عنك ... حررناكى من العدو ... طهرناكى من الصهاينة ... عدت ياسيناء مصرية كما كنت وستكونين مصرية عبر الأزمان والتاريخ ... سيناء الحبيبة ... من عظم حبى لكى اتيت باسمك فى بيتى ... اطلقت على ابنتى اسم سيناء ... وهى بعمر تحريرك الآن ... أه ياسيناء ... الآن أيدى تحاول اغتصابك مرة أخرى بشعار الله أكبر ... أغمض عينيه وتدافعت عبرة حارة من عينيه ... تحجرت على خده

دخلت ابنته سيناء تناديه ... دخلت شامخة ... سارت إليه كأنها مصر كلها ... نادته : أيها المحارب الشجاع أتيتك بنصر جديد فى سيناء ... وأكملت  - وهى تفرد جريدة فى يديها – أخى ... وابنك ... ساعد على تطهير سيناء ( فابنه ضابط بالجيش المصرى )

نادته وهى تنظر إليها ... لم تتعود منه  هذا السكون ... لم يجبها ... لم يحرك ساكنا ... أمسكت كتفه تحضنه وتحاول أن توقظه كأنها أمه وليست ابنته ... يالله ... لقد فارق البطل الحياة ... سقطت عبرات على وجهها الوضاء ... وقالت : مات بطل أكتوبر ... وترك بطلا جديدا ...

فقد كانت الجريدة معها حديثة معنونة بعمليات التطهير من قبل الجيش المصرى فى سيناء من الجماعات الإرهابية

فقد كانت الجريدة التى قرأها قديمة ... ومن فرط انفعاله نسى أن شهر رمضان قد انتهى